تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [التين : ٨] فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فليقل : بلى ، ومن قرأ والمرسلات فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [المرسلات : ٥٠] فليقل : آمنا بالله» (١). وروي أنّ رجلا كان يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك اللهم بلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أن كان مؤمنا» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ٨٨٧.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٦٥.

٥٠١

سورة الإنسان

وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدنية وهي إحدى وثلاثون آية ، ومائتان وأربعون كلمة ، وألف وأربعة وخمسون حرفا

واختلف فيها هل هي مكية أو مدنية فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي : مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري. وقال الجمهور : مدنية ، وقال الجلال المحلي : مكية أو مدنية ولم يجزم بشيء. وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وقيل : فيها مكّي من قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [الإنسان : ٢٣] إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الأسماء الحسنى (الرَّحْمنِ) الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. (الرَّحِيمِ) الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى.

ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

(هَلْ أَتى) قال الزمخشري : بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر (١):

سائل فوارس يربوع بثدتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالمعنى : أقد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي : أتى (عَلَى الْإِنْسانِ) قبل زمان قريب (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي : كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب ا ه. فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام ، وقوله : والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لزيد الخيل في ديوانه ص ١٥٥ ، والجنى الداني ص ٣٤٤ ، والدرر ٥ / ١٤٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٢ ، وشرح المفصل ٨ / ١٥٢ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣٥٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٤٢٧ ، والخصائص ٢ / ٤٦٣ ، واللمع ص ٣١٧.

٥٠٢

موقعها هل ، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظا كالبيت المتقدم أو تقديرا كالآية الكريمة ، ولو قلت : هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد ، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد ؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه ؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء.

واختلف في المراد من الإنسان ، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ : هو آدم عليه‌السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن : خلق الله كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه‌السلام فهو قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.)

روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال : ليتها تمت فلا نبتلى أي : ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه‌السلام (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلا يقرأ (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) قال عمر : ليتها تمت يقول : ليته بقي ما كان ، هذا وهما ضجيعاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف.

فإن قيل : إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنسانا والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنسانا حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئا مذكورا؟ أجيب : بأن الطين والصلصال إذا كان مصورا بصورة الإنسان ويكون محكوما عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنسانا صح تسميته بأنه إنسان.

روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ الروح فصار مذكورا. قال ابن سلام : لم يكن شيئا لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوانا.

وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين : إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي : بعد خلق آدم عليه‌السلام (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : مادّة هي شيء يسير جدا من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه (١) :

ما لي أراك تكرهين الجنه

هل أنت إلا نطفة في شنه

وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) إذ كان علقة ومضغة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى : (أَمْشاجٍ) أي : أخلاط من ماء

__________________

(١) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥٠٣

الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتا لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) [الرحمن : ٧٦] أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع ، وقال الزمخشريّ : (نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) كبرمة أعشار وبرد أكياش ، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ، ويقال أيضا : نطفة مشج قال الشماخ (١) :

طوت أحشاء مرتجة لوقت

على مشج سلالته مهين

ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ا ه. فقد منع أن يكون أمشاجا جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان : وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالا لا يكون مفردا ، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالا مفردا فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد بردا فوصفهما بالجمع ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان الشبه له.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، قال القرطبيّ : وقد روي هذا مرفوعا ذكره البزار وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : هي عروق النطفة. وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء ، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض.

ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم ، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع ، وفي مقدمه البصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠].

وقوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ) يجوز فيه وجهان : أحدهما : أنه حال من فاعل خلقنا أي : خلقناه حال كوننا مبتلين له ، والثاني : أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال ، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى : نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة ، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى : نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف ، وفيما يختبره به وجهان : أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشرّ. والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل : نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه : وقيل : نكلفه ليكون مأمورا بالطاعة

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان الشماخ ص ٣٢٨ ، ولسان العرب (مشج) ، (سلل) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٥١ ، وتاج العروس (سلل).

٥٠٤

ومنهيا عن المعاصي.

(فَجَعَلْناهُ) أي : بما لنا من العظمة بسبب ذلك (سَمِيعاً بَصِيراً) أي : عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته ، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها ، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية ، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس ، ولأنّ البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع ، وقال بعضهم : في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل إنا جعلناه سميعا بصيرا نبتليه ، أي : جعلنا له ذلك للابتلاء. وقيل : المراد بالسميع المطيع كقولك سمعا وطاعة وبالبصير العالم يقال : لفلان بصر في هذا الأمر.

(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي : بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل ، وقال مجاهد رضي الله عنه : بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه : السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل : منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي : والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال : وهو كذلك.

وقوله تعالى : (إِمَّا شاكِراً) أي : لإنعام ربه عليه (وَإِمَّا كَفُوراً) أي : بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان : أحدهما : أنه حال من مفعول هديناه أي : هديناه مبينا له كلتا حالتيه ، والثاني : أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي : عرّفناه السبيل إمّا سبيلا شاكرا وإمّا سبيلا كفورا كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازا ، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (١) الحديث ، وعن جابر رضي الله عنه : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكرا وإمّا كفورا» (٢).

ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى : (إِنَّا) أي : على ما لنا من العظمة (أَعْتَدْنا) أي : هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة (لِلْكافِرِينَ) أي : العريقين في الكفر خاصة ، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى : (سَلاسِلَ) جمع سلسلة أي : يقادون ويوثقون بها (وَأَغْلالاً) أي : في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم (وَسَعِيراً) أي : نارا حامية جدا شديدة الاتقاد.

وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي سلاسلا وصلا بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة ، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف ، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن سلاسل فوجه

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٤٧١٤ ، ٤٧١٦ ، والترمذي حديث ٢١٣٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٣ ، ٢٧٥ ، ٢٨٢ ، ٣٩٣ ، ٤١٠ ، ٤٨١ ، ٣ / ٣٥٣.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٥٣ ، والطبراني في المعجم الكبير ١ / ٢٦٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢١٨.

٥٠٥

بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول : رأيت عمرا بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأيضا هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلا ، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث : «إنكن صواحبات يوسف» (١) ومنها أنه مرسوم في الإمام أي : مصحف الحجاز والكوفة بالألف ، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع ، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضا.

وقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون هذا التنوين بدلا من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف ، والثاني : أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا. ه. قال بعض المفسرين : وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام ، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم : قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير ، وهذا جمع تصحيح ، وأما من لم يقف بالألف فواضح.

ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيدا للترتيب فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة ، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنما سماهم الله تعالى الأبرار ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» (٢). وقال الحسن رضي الله عنه : البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون أحدا» (٣).

(يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض (كانَ مِزاجُها) أي : ما تمزج به (كافُوراً) لبرده وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأنا في المزج عظيما يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد ، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضا كمام الشجر الذي هو ثمرتها ، والكافر البحر ، والكافر الليل ، والكافر الساتر لنعم الله تعالى ، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض ، قال الشاعر (٤) :

وكافر مات على كفره

وجنة الفردوس للكافر

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٦٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤١٨ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٧٢ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٣٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٢٣٢.

(٢) أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال ٥٤٠٥ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ / ١٦٣٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٤٩٢ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٦٧ ، ٨ / ٣٦٦.

(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٢٥.

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥٠٦

والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة ، والكافور : ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.

فإن قيل : مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذا فما السبب في ذكره؟ أجيب : بأوجه :

أحدها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور ، أي : يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافورا في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته.

ثانيها : أنّ رائحة الكافور عرض ، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب ، فسمي ذلك الجسم كافورا وإن كان طعمه طيبا فيكون الكافور ريحها لا طعمها.

ثالثها : أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة ، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل : يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور.

وقوله تعالى : (عَيْناً) في نصبه أوجه : أحدها : أنه بدل من (كافُوراً) لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي.

الثاني : أنه بدل من محل (مِنْ كَأْسٍ) قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف ، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف ، قال : كأنه قيل : يشربون خمرا خمر عين. الثالث : أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع : أنه بإضمار أعني قاله القرطبي ، وقيل : غير ذلك.

(يَشْرَبُ بِها) قال الجلال المحلي : منها. وقال البقاعي : أي : بمزاجها. وقال الزمخشري : بها الخمر ، قال : كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. (عِبادُ اللهِ) أي : أولياؤه.

فإن قيل : الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق؟ أجيب : بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره ، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي ، أو يقال : حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن ، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام ، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] وتارة يعمّ كقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وقوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر : ٤٩](يُفَجِّرُونَها) أي : يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت (تَفْجِيراً) سهلا لا يمتنع عليهم.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا

٥٠٧

مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وهذا يجوز أن يكون مستأنفا ويجوز أن يكون خبرا لكان مضمرة. قال الفراء : التقدير : كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري : يوفون جواب من عسى يقول : ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان : واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر ، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى ، وقال الكلبى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : يتممون العهود لقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) [النحل : ٩١](أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي : والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله ، وإن شئت قلت في حدّه : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (١).

ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفا دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين ، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيء بل لكرم الطبع. (وَيَخافُونَ) أي : مع فعلهم للواجبات (يَوْماً) قال ابن عبد السلام : شرّ يوم أو أهوال يوم (كانَ) أي : كونا هو في جبلته (شَرُّهُ) أي : ما فيه من الشدائد (مُسْتَطِيراً) أي : فاشيا منتشرا غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه : كان شرّه فاشيا في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء ، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن ، قالوا : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب ، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.

فإن قيل : لم قال تعالى : (كانَ شَرُّهُ) ولم يقل سيكون؟ أجيب : بأنه كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] فبما قيل في ذاك يقال هنا.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) أي : على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون ، وقوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) حال إما من الطعام أي : كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه ، كما قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢) لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد ، وإما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور حديث ٦٧٠٠ ، وأبو داود في الأيمان والنذور حديث ٣٢٨٩ ، والترمذي في النذور والأيمان حديث ١٥٢٦ ، والنسائي في الأيمان والنذور حديث ٣٨٠٦ ، وابن ماجه في الكفارات حديث ٢١٢٦.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ ، ٢٢٢ ، وأبو داود في السنة باب ١٠ ، والترمذي في المناقب باب ٥٨ ، وابن ماجه في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١ ، ٥٤.

٥٠٨

من الفاعل والضمير في حبه لله أي : على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام.

(مِسْكِيناً) أي : محتاجا احتياجا يسيرا فصاحب الاحتياج الكثير أولى (وَيَتِيماً) أي : صغيرا لا أب له (وَأَسِيراً) أي : في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه ، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزا عن الكسب لصغره ، والأسير لا يتمكن لنفسه نصرا ولا حيلة.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين ، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز ، وكان الخبز إذ ذاك عزيزا حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام ، وذلك لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دفعهم إليهم قال : «استوصوا بهم خيرا» (١). وقيل : الأسير المملوك ، وقيل : المرأة لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان» (٢) أي : أسرى.

وقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) على إضمار القول أي : يقولون بلسان المقال أو الحال : إنما نطعمكم أيها المحتاجون (لِوَجْهِ اللهِ) أي : لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك ، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحي منه ويرجى ويخشى عند رؤيته (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ) لأجل ذلك (جَزاءً) أي : لنا من أعراض الدنيا (وَلا شُكُوراً) أي : لشيء من قول ولا فعل ، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا ، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى.

ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) أي : الخالق لنا المحسن إلينا (يَوْماً) أي : أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم (عَبُوساً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك : نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.

(قَمْطَرِيراً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : طويلا. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم : القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي : العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش : القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديدا كريها.

ولما كان فعلهم هذا خالصا لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى : (فَوَقاهُمُ اللهُ) أي : الملك الأعظم بسبب خوفهم (شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي : العظيم ولا بدّ لهم من نعيم ظاهر وباطن

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «استوصوا بالأسارى خيرا» أخرجه الطبراني في المعجم الصغير ١ / ١٤٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٦ / ٨٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١١٠٣٦.

(٢) أخرجه الترمذي في الرضاع حديث ١١٦٣ ، وابن ماجه في النكاح حديث ١٨٥١ ، وأحمد في المسند ٥ / ٧٣.

٥٠٩

ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى : (وَلَقَّاهُمْ) أي : أعطاهم (نَضْرَةً) أي : حسنا دائما في وجوههم ، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى : (وَسُرُوراً) أي : في قلوبهم دائما في مقابلة خوفهم في الدنيا.

وأشار إلى الثالث بقوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي : بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات (جَنَّةً) أي : ادخلوا بستانا جامعا يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى : (وَحَرِيراً) أي : ألبسوه أي : هو في غاية العظمة ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناس فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء ، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه‌السلام وقال : خذها يا محمد ـ أي : السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة (١) حديث موضوع.

ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي : الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين ، فقال الجلال المحلي : حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة ، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير ، فيقال : متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل : إنه من فاعل صبروا ، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة ، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالا مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.

ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ) أي : السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل : الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها) أي : الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى ، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل : إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالا متداخلة. (شَمْساً) أي : حرّا (وَلا) يرون فيها (زَمْهَرِيراً) أي : بردا شديدا ، فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلا على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانيا على نفي الحرّ الذي سببه الشمس ، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين ، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف

__________________

(١) الحديث ذكره البيضاوي في تفسيره ٢ / ٥٥٢.

٥١٠

فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائما بخلاف الدنيا ، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك ، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتكت النار إلى ربها قالت : يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» (١) وقيل : الزمهرير القمر بلغة طيىء ، وأنشدوا (٢) :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى ما ظهر.

(وَدانِيَةً) أي : قريبة مع الارتفاع (عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي : شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية ، فقال البغوي : عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي : عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل ، قال البيضاوي : أو عطف على جنة أي : وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦]. فإن قيل : إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب : بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها ، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي : المجنية (تَذْلِيلاً) أي : سهل تناولها تسهيلا عظيما لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره ، فإن كانوا قعودا أو مضطجعين تدلت إليهم ، وإن كانوا قياما وكانت على الأرض ارتفعت إليهم ، وقال البراء : ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا ، فمن أكل قائما لم يؤذه ومن أكل جالسا لم يؤذه ومن أكل مضطجعا لم يؤذه ، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.

ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى : (وَيُطافُ) أي : من أي طائف كان لكثرة الخدم (عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ) جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي : يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى : (مِنْ فِضَّةٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي : الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى : يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.

ولما جمع الآنية خص فقال تعالى (وَأَكْوابٍ) جمع كوب ، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة (كانَتْ) أي : تلك الأكواب كونا هو من جبلتها (قَوارِيرَ) أي : كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق ، جمع

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٦٠ ، ومسلم في المساجد حديث ٦١٧ ، والترمذي في جهنم حديث ٢٥٩٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣١٩.

(٢) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥١١

قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل : هو خاص بالزجاج.

ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج ، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة ، قال تعالى معيدا للفظ أوّل الآية الثانية تأكيدا للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبيانا لنوعها : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي : قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه ، وبياض الفضة وشرفها ولينها ، وقال الكلبي : إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلا بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني ، والباقون بغير تنوين ، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف ، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاما ، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب : إحداها : تنوينهما معا ، والوقف عليهما بالألف. الثانية : مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف ، الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف ، الرابعة : تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة : عدم تنويهما معا والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل ؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل ، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين ، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر ، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي ، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل ، والوجه في وقفه على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر ، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية ، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف ، فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول.

وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لإتباعه الأوّل يعني : أنهم يأتون بالتنوين بدلا من حرف الإطلاق الذي للترنم ، كقوله (١) :

يا صاح ما هاج العيون الذرفن

وقوله تعالى (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان : أحدهما : أنه للمطاف عليهم ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني : أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) [الإنسان : ١٥] على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز ، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر ، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة.

(وَيُسْقَوْنَ) أي : ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة (فِيها) أي : في الجنة أو تلك الأكواب (كَأْساً) أي : خمرا في إناء (كانَ مِزاجُها) أي : ما تمزج به على غاية الإحكام

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٥١٢

(زَنْجَبِيلاً) أي : غاية اللذة ، وكانت العرب تلتذ بالشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم ، والزنجبيل : نبت معروف ، وسمي الكأس بذلك لوجود طعم الزنجبيل فيها قال الأعشى (١) :

كأن القرنفل والزنجبي

ل باتا بفيها وأريا مشورا

وقال المسيب بن علس (٢) :

وكأن طعم الزنجبيل به

إذ اذقته وسلافة الخمر

وقوله تعالى : (عَيْناً فِيها) أي : الجنة بدل من زنجبيلا وكون الزنجبيل عينا فيه خرق للعوائد ؛ لأنّ الزنجبيل عندنا شجر يحتاج في تناوله إلى علاج ، فبين أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلا إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجرا ليتحوّل عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل (تُسَمَّى) أي : تلك العين لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسموّ وصفها (سَلْسَبِيلاً) والمعنى : أن ماء تلك العين كالزنجبيل الذي تلتذ به العرب سهل المساغ في الحلق ، فليس هو كزنجبيل الدنيا يلذع في الحلق فتصعب إساغته. والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة زيدت فيه الباء زيادة في المبالغة في هذا المعنى ، وقال مقاتل وابن حبان رضي الله عنهما : سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان. قال البغوي : وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. وقال مقاتل رضي الله عنه : يشربها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة.

ولما ذكر تعالى المطوف به لأنه الغاية المقصودة وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة بقوله تعالى :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي : بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب (وِلْدانٌ) أي : غلمان هم في

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٤٣ ، ولسان العرب (شور) ، (زنجبيل) ، وتهذيب اللغة ١١ / ٢٦٠ ، ٤٠٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦٣ ، وكتاب العين ٦ / ٢٨٠ ، والمخصص ٥ / ١٥ ، ١٤ / ٢٤١ ، وتاج العروس (شور) ، (زنجبيل).

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. ولعدي بن الرقاع بيت في ديوانه ص ٤٤ ، قريب منه ، وهو :

وكأن طعم الزنجبيل ولذّة

صهباء ساك بها المسحّر فاها

والبيت من الكامل ، وهو في لسان العرب (سدك) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٣١٦.

٥١٣

سن من هو دون البلوغ ؛ لأنّ الفقهاء قالوا : الناس غلمان وصبيان وأطفال وذراري إلى البلوغ ثم هم بعد البلوغ شبان وفتيان إلى الثلاثين ، ثم هم بعدها كهول إلى الأربعين ثم بعدها شيوخ واستنبط بعضهم ذلك من القرآن في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في حق يحيى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] وفي حق عيسى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] وعن إبراهيم : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : ٦٠] وعن يعقوب : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) [يوسف : ٧٨]. وقالوا : وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام ، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها.

ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى : (مُخَلَّدُونَ) أي : قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائما من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة.

(إِذا رَأَيْتَهُمْ) أي : يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظرا أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها (حَسِبْتَهُمْ) أي : من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي : من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك ، قال بعض المفسرين : هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم : أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان : وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار ، وتكون خدما لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبيا وخداما. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سنا وملكا سرورا لهم. ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابنه إبراهيم عليه‌السلام : «إن له لظئرا تتم رضاعه في الجنة» (١) فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا ، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفا ووصلا ، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.

ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ) أي : وجدت منك الرؤية (ثَمَ) أي : هناك في أي مكان كان في الجنة ، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى (رَأَيْتَ) جواب إذا أي : رأيت (نَعِيماً) أي : ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. (وَمُلْكاً كَبِيراً) أي : لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة.

قال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل : كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك ، وقال الحكيم الترمذي : هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئا ، قالوا له : كن فيكون. وفي الخبر : إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي : وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي : قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين.

ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى : (عالِيَهُمْ) أي : فوقهم (ثِيابُ سُندُسٍ) هو ما رق من الحرير (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن ، والسندس الظهائر ، وقرأ نافع وحمزة (عالِيَهُمْ) بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٢٣١٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٢.

٥١٤

الياء وضم الهاء ؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحرّكت ضمت الهاء ، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه : أظهرها : أن يكون خبرا مقدّما ، وثياب مبتدأ مؤخر.

وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضا أوجه : أظهرها : أن يكون خبرا مقدّما وثياب مبتدأ مؤخرا. كأنه قال : فوقهم ثياب. قال أبو البقاء : لأنّ عاليهم بمعنى فوقهم ، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعا وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص خضر وإستبرق برفعهما ، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر وجرّ إستبرق ، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ خضر ورفع إستبرق.

وحاصل القراءات في ذلك أربع مراتب : الأولى : رفعهما ، الثانية : خفضهما ، الثالثة : رفع الأوّل وخفض الثاني ، الرابعة : عكس ذلك. فأمّا القراءة الأولى : فإنّ رفع خضر على النعت لثياب ورفع إستبرق نسق على الثياب ، ولكن على حذف مضاف أي : وثياب إستبرق ، وأمّا القراءة الثانية : فيكون جرّ خضر على النعت لسندس. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع ، فقال مكي : هو اسم جمع ، وقيل : هو جمع سندسة كتمر وتمرة ، ووصف اسم الجنس بالجمع صحيح قال تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرعد : ١٢] ، (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ، (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) [يس : ٨٠] وإذا كانوا قد وصفوا المحلى لكونه مرادا به الجنس بالجمع في قولهم : أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض وفي التنزيل (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ) فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى ، وجرّ إستبرق نسقا على سندس لأنّ المعنى : ثياب من سندس وثياب من إستبرق ، وأمّا القراءة الثالثة : فرفع خضر نعتا لثياب وجرّ إستبرق نسقا على سندس أي : ثياب خضر من سندس ومن إستبرق ، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضا أخضر ، وأمّا القراءة الرابعة : فجرّ خضر على أنه نعت لسندس ورفع إستبرق على النسق على ثياب بحذف مضاف أي : وثياب إستبرق.

ثم أخبر تعالى عن تحليتهم بقوله سبحانه (وَحُلُّوا) أي : المخدوم والخادم (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (١) فلذلك كان أبو هريرة يرفع إلى المنكبين وإلى الساقين.

تنبيه : قال هنا : (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وفي سورة فاطر : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [فاطر : ٣٣] وفي سورة الحج : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] فقيل : حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب. وقيل : تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل : يجمع في يدي أحدهم سواران من ذهب ، وسواران من فضة ، وسواران من لؤلؤ لتجتمع لهما محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيب. وقيل : يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه. وقيل : أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء. وقيل : هذا للنساء والصبيان. وقيل : هذا يكون بحسب الأوقات والأعمال.

__________________

(١) أخرجه النسائي في الطهارة حديث ١٤٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٢ ، ٣٧١. بلفظ : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».

٥١٥

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم (شَراباً طَهُوراً) أي : ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة.

وقال عليّ رضي الله عنه : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد ، وما كان في جوفه من أذى ، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي : قوله تعالى (طَهُوراً) في تفسيره احتمالات : أحدها : لا يكون نجسا كخمر الدنيا ، وثانيها : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. وثالثها : أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهرا لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.

فإن قيل : هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب : بأنه نوع آخر لوجوه : أولها : رفع. ثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وذلك يدل على فضل هذا دون غيره ، ثالثها : ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة ، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك ، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيرا عجيبا وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقا يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذا بلقائه باقيا ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.

وقوله تعالى : (إِنَ) على إضمار القول أي : ويقال لهم إنّ (هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي : على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم (وَكانَ) أي : على وجه الثبات (سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي : لا نضيع شيئا منه ونجازي بأكثر منه أضعافا مضاعفة.

ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ) أي : على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا (نَزَّلْنا عَلَيْكَ) وأنت أعظم الخلق إنزالا استعلى حتى صار المنزّل خلقا لك (الْقُرْآنَ) أي : الجامع لكل هدى (تَنْزِيلاً) قال ابن عباس : متفرّقا آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.

قال الرازي : والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كهانة وسحر ، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد : إنّ ذلك وحي حق وتنزيل

٥١٦

صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان ، الأولى : إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار ، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية : تقويته على تحمل مشاق التكليف ، فكأنه تعالى يقول له : إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقا إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك. قال ابن عباس : اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل : اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي : الكفرة الذين هم ضد الشاكرين (آثِماً) أي : داعيا إلى إثم سواء كان مجرّدا عن مطلق الكفر أو مصاحبا له (أَوْ كَفُوراً) أي : مبالغا في الكفر وداعيا إليه وإن كان كبيرا وعظيما في الدنيا ، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة : أراد بالآثم والكفور أبا جهل ، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاه أبو جهل عنها وقال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ على عنقه.

وقال مقاتل : أراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء ، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه ، فقرأ عليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] فانصرفا عنه. وقال أحدهما : ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.

فإن قيل : كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله : (آثِماً أَوْ كَفُوراً) أجيب : بأنّ معناه : ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه ؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر ، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.

ثم قال فإن قيل : معنى أو : ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن إطاعتهما جميعا؟ أجيب : بأنه لو قال : ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل : ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعا كما إذا نهى أن يقول لأبويه : أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.

فإن قيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يطيع أحدا منهم فما فائدة هذا النهي؟ أجيب : بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعصوم دائما أبدا ، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.

(وَاذْكُرِ) أي : في الصلاة (اسْمَ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بكل جميل (بُكْرَةً) أي : الفجر (وَأَصِيلاً) أي : الظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ) أي : بعضه والباقي للراحة بالنوم (فَاسْجُدْ لَهُ) أي : المغرب والعشاء (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي : صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعا

٥١٧

وأصيلا أي : عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل ، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.

ولما خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ) أي : الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين (يُحِبُّونَ) أي : محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت (الْعاجِلَةَ) لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور ، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفورا ، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكرا.

(وَيَذَرُونَ) أي : ويتركون (وَراءَهُمْ) أي : قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى : (يَوْماً) مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى : (ثَقِيلاً) وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) أي : بما لنا من العظمة لا غيرنا (وَشَدَدْنا) أي : قوّينا (أَسْرَهُمْ) أي : توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفا أمشاجا في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق ، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار ، وفرس مأسور الخلق (وَإِذا شِئْنا) أي : بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) أي : جئنا بأمثالهم بدلا منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع ، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره ، وقوله تعالى : (تَبْدِيلاً) تأكيد. قال الجلال المحلي : ووقعت إذا موقع إن ، نحو (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [النساء : ١٣٣] لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذا لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨](إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [النساء : ١٣٣] (إِنَّ هذِهِ) أي : السورة أو الآيات القريبة (تَذْكِرَةٌ) أي : عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين ، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه (فَمَنْ شاءَ) أي : بأن اجتهد في وصوله إلى ربه (اتَّخَذَ) أي : أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه (إِلى رَبِّهِ) أي : المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه (سَبِيلاً) أي : طريقا واضحا سهلا واسعا بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم ، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا.

(وَما تَشاؤُنَ) أي : في وقت من الأوقات شيئا من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر ، وله أيضا إبدالها واوا مع المدّ والقصر (إِلَّا) وقت (أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسبا لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى ، وانتفى مذهب القدرية الذين

٥١٨

يقولون : إنا نخلق أفعالنا ، ومذهب الجبرية القائلين : لا فعل لنا أصلا ، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه ، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك ، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلا لم تقطع ولو تحامل ، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل ، فمن قال : أنا أخلق فعلي مستقلا به فهو كمن قال : السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل ، ومن قال : الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلا كان كمن قال : هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين ، والذي يقول : إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل ، كمن قال : إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل ، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.

ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط علما وقدرة (كانَ) أي : أزلا وأبدا (عَلِيماً) أي : بما يستأهل كل أحد (حَكِيماً) أي : بالغ الحكمة فهو يمنع منعا محكما من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيرا أعانه عليه ، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) أي : ممن علمه من أهل السعادة (فِي رَحْمَتِهِ) أي : جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى (وَالظَّالِمِينَ) أي : الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى : (أَعَدَّ لَهُمْ) مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها (عَذاباً أَلِيماً) أي : مؤلما فهم فيه خالدون أبد الآبدين.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٧٧.

٥١٩

سورة المرسلات عرفا

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) فمدنية.

وقال ابن مسعود : «نزلت والمرسلات عرفا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت ، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» (١) ا. ه. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد ، وعن كريب مولى ابن عباس قال : قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت : والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.

وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الحق المبين (الرَّحْمنِ) المنعم على الخلق أجمعين (الرَّحِيمِ) الذي خص بكرامته عباده المؤمنين.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤))

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي : الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضا ونصبها على الحال ، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) [الحجر : ٢٢] وقال تعالى : (يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الأعراف : ٥٧]. وروى مسروق عن عبد الله قال : هي الملائكة أرسلت

__________________

(١) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٨٣٠ ، والنسائي في البيعة حديث ٤٢٠١.

٥٢٠